باب بيان الشرك وأصله
قال الله تعالى في سورة الشورى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
والكاف في قوله: (كمثله) للتوكيد.
ومعنى ذلك: أن الله تعالى لا يماثله شيء في كمال صفاته، والعرب تقول: ليس كمثل فلان أحد. يريدون بذلك التباين في كمال الصفات، بين فلان هذا وبين غيره من الناس، ولا يزال عرب الجزيرة العربيّة يقولون: فلان ما مثله أحد. و "ما" هنا بمعنى: ليس.
وقال تعالى في سورة الإخلاص: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)
أي: ليس لله تعالى مكافئ من خلقه في كمال صفاته، والعرب تقول: فلانٌ ليس كُفئاً لفلان، أي: ليس مثيلاً له في كمال صفاته.
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت، أو سئل، رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" .. الحديث.
رواه البخاري.
والنِدّ والكفء والمثيل، معانٍ مترادفة.
فالشرك أن تجعل لله ندّاً ومثيلاً وكفئاً في كمال صفاته، وهذا هو أصل الشرك.
وإذا جعلت مخلوقاً ندّاً ومثيلاً وكفئاً لله تعالى، فهذا يترتب عليه، أن يكون المخلوق شريكاً لله تعالى في ملكه وخلقه وأمره ونهيه.
وآية ذلك، أنك ترى أن المخلوق قادر على جميع ما يقدر عليه الله تعالى، أو على بعض ما يقدر عليه الله تعالى، مما لا يقدر عليه إلّا الله تعالى في الحقيقة.
فمثلاً: أن تدعي أن المخلوق عنده من قوّة السمع، ما يقدر به على أن يسمعك وهو في مكان بعيد، أو وهو ميّت، ويعيش في عالم أخر.
أو تدعي أن المخلوق عنده من قوة البصر، ما يقدر به على أن يراك وهو في مكان بعيد، أو وهو ميّت، ويعيش في عالم أخر.
أو تدعي أن المخلوق عنده من قوة العِلم، ما يقدر به على أن يعلم بحالك، وهو في مكان بعيد، أو وهو ميّت، ويعيش في عالم أخر.
أو تدعي أن المخلوق عنده من القوة والقدرة، ما يقدر به على أن يغيثك أو يعينك أو يعيذك، وهو في مكان بعيد، أو وهو ميّت، ويعيش في عالم أخر.
كل هذه الاعتقادات، تفيد أن العبد، قد جعل من المخلوقات من يماثل ويكافئ الله تعالى في كمال صفاته، التي لا يستحقها إلّا هو، وهذا هو الشرك الأكبر.
ويترتب على ذلك، صرف العبادة لغير الله تعالى، حبّاً لهذا المعبود، أو خوفاً منه، معتقداً فيه النفع والضر، سواء اعتقد المشرك أن هذا المعبود ينفعه أو يضره استقلالاً من دون الله تعالى، أو اعتقد أنه ينفعه ويضره لما له من مكانة ووجاهة عند الله تعالى، فهو يصرف له شيئاً من العبادة، ليكون له شفيعاً ووسيطاً ووسيلةً عند الله تعالى، والنوع الثاني، هو الشرك الذي وقع فيه مشركوا العرب قبل الإسلام.
قال تعالى في سورة يونس: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
وقال تعالى في سورة الزمر: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)
قال مجاهد بن جبر: "قريش تقوله للأوثان، ومن قبلهم يقوله للملائكة، ولعيسى بن مريم، ولعزير" اهـ
رواه الطبري.
قلت: وفي هذا ردٌّ على مشركي الصوفية والشيعة، الذين يزعمون أن دعاء الأحياء من الملائكة والأنبياء والأولياء، ليس كدعاء الأصنام والأشجار والأحجار، وأن دعاء الأحياء ليس شركاً، بل يستحبونه ويحثّون عليه، ويزعمون أنه أفضل من دعاء الله وحده، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف: 5]
وقال قتادة بن دعامة: قالوا: ما نبعدهم إلا ليقربونا؛ أي: ليشفعوا لنا عند الله. اهـ
رواه الطبري.
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: قالوا: هم شفعاؤنا عند الله، وهم الذين يقربونا إلى الله زلفى يوم القيامة، للأوثان، والزلفى: القربى. اهـ
رواه الطبري.
وقال تعالى في سورة الزمر، منكراً على من يتخذ الشفعاء: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ)
وقوله: (أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ) أي: أن ما تدعونهم من دونه، وتتخذونهم شفعاء بيني وبينكم بزعمكم، لا يملكون شيئاً، وهذا دليل على أن من لا يملك شيئاً لا يدعى من دون الله تعالى، ولا يكون شفيعاً بهذه الطريقة، ولا يعقلون، أي: لا يعقلون ما تقولونه من دعائهم، فضلاً عن أن يستجيبوا لكم! فتبيّن من خلال هذه الآية، أنه يجب فيمن يدعى أن يتوفر فيه شرطان: وهما: انفراده بالملك وأن يكون عاقلاً، وهاتان صفتان لا تليق إلا بالله، فتوجب أن لا يدعى إلا هو وحده لا شريك له، ولا يتخذ العباد بينهم وبينه شفعاء، يدعونهم من دونه، ويذبحون لهم، وينذرون لهم.
وقال تعالى في سورة الأنعام:(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)
وقال تعالى في سورة الروم: (وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ)
قلت: وذلك يوم القيامة، إذا انزاح الباطل عن أولئك المشركين، وعلموا سوء عملهم، وتبرأت منهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، وتبرأ منهم الأنبياء والأولياء، بل وتبرأ منهم طواغيتهم الذين كانوا يدعونهم لعبادتهم من دون الله تعالى، ويقدمون لهم أنفسهم على أنهم أولياء صالحين، وبررة متقين.
فإن قيل: كيف أميِّز بين قوة وقدرة الله تعالى وبين قوة وقدرة المخلوق؟
والجواب على ذلك: أن تنظر في عامة الناس، فما لا يقدر عليه عامة الناس، فإن الملائكة والأنبياء والأولياء والمشايخ والجن لا يقدرون عليه، فضلاً عن الأشجار والأحجار.
ويوضّح ذلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنكي من الله شيئا، سليني من مالي ما شئتِ".
فمعنى قول النبي، أنه لا يقدر إلا على ما يقدر عليه المخلوقون عادة، فما لا يستطيعه أي مخلوق، فإن النبي لا يستطيعه، إنما يملك النبي أن يشفع للناس بدعائه فقط، فيدعو الله لهم إذا كان حياً؛ وهذا شرط؛ لأنه لا يتصور بالعقل أن النبي يسمعنا وهو ميّت أو يسمعنا وبيننا وبينه مسافة بعيدة أو هو في عالم ونحن في عالم أخر.
وهذا النوع من الشفاعة، وهو الدعاء للناس، يقدر عليه كل أحد، وليس الأنبياء وحسب، وكما قلنا أن الأنبياء لا يقدرون إلا على ما يقدر عليه عامة الناس عادة، إلا أن دعاء الأنبياء أحرى أن يستجاب، لأنهم أصفياء الله من خلقه، بينما غيرهم، نسبة استجابة الله لدعائهم أقلّ.
مع الأخذ في الاعتبار، الفارق بين هذه المخلوقات في قوتها وقدرتها، فهذه المخلوقات بعضها أكمل من بعض، ولكن جميعها تبقى قوتها وقدرتها قوة وقدرة مخلوق، تكون في أشياء معيّنة ومحدودة.
فعندما تستغيث ببشر لينصرك على عدوّك، إنما تريد منه أن يأتيك بنفسه، أو يبعث رجالا إليك نيابة عنه، أو على الأقل يعطيك سلاحاً، أو مالاً لتشتري به سلاحاً، ولا يمكن أن يكون مرادك من الاستغاثة به أن ينزل الخوف في قلوب عدوك، أو يقوي قلبك وعزمك حتى يجعله أقوى من قلب وعزم عدوّك، أو يبعث ملائكة لينصروك، أو يبعث ريحاً على أعدائك، لأن هذه الأمور لا يقدر عليها إلا الله تعالى، فإن زعمت أن المخلوق قادر على مثل ذلك، بدعوى أن له مكانة ووجاهة عند الله، فقد جعلته لله ندّاً في قوته وقدرته سبحانه، وهذا هو الشرك الأكبر.
والطبيب، يذهب إليه الناس ليجدوا الشفاء عنده من مرضهم، ولكن الطبيب حتى يستطيع شفائك من مرضك، يجب عليه أولاً أن يفحص جسدك، وقد يهتدي لموضع العِلة وسببها وقد لا يهتدي، ثم يبحث لك عن علاج، وقد يهتدي لعلاج علّتك وقد لا يهتدي، ثم هو إذا عرف علتك، لا يستطيع "خلق" دواء علّتك، وإنما يبحث عن الدواء، بين ما خلق الله تعالى من أعشاب أو ثمار، فإن لم يجد، أو لم يعرف أيّ الأدوية هو الوسيلة لشفاء مرضك، فسوف يكون عاجزاً تماماً عن شفائك، ثم أنت لا تعلم هل هذا الطبيب، طبيب متقن لعمله، خبير به أم لا.
ولكن من الذي عنده القدرة على أن يهديك إلى الطبيب الحاذق، ثم يوفّقه لمعرفة علّتك، ثم يوفقه لإيجاد الدواء الصحيح لهذه العِلّة؟
ومن خلق لك الدواء ابتداء على غير مثال سابق؟
الجواب: هو الله وحده لا شريك له.
فقدرة الطبيب محدودة، وحتى يشفيك من مرضك، يحتاج هو نفسه إلى بذل الأسباب التي وضعها الله له، مع توفيق الله تعالى، لمعرفة علّة المريض، وأيضاً المريض نفسه، يحتاج إلى بذل الأسباب مع توفيق الله له ليُشفى من مرضه.
أما الوحيد الذي يملك أن يهديك ويهدي الطبيب إلى الطريق الذي من خلاله تصل إلى الشفاء من مرضك فهو الله وحده.
وهو وحده، الذي خلق المرض وخلق دواءه، وهو الذي علّم الطبيب، ما لم يكن يعلم، وهو الوحيد القادر على أن يشفيك من مرضك بلا أسباب.
ومن يعتقد في الطبيب هذا الاعتقاد، فقد جعل من الطبيب نداً لله تعالى، ووقع في الشرك الأكبر.
لذلك أنت إذا مرضت، تبدأ بسؤال الله تعالى الشفاء. ثم تتسبب بالأسباب التي وضعها الله تعالى لعباده ليتسببوا بها، طاعة له سبحانه، لأنه هو من أمرنا بأن نأخذ بالأسباب، وإلّا لأي شيء سبّب الأسباب؟!
فالله تعالى لا يريد من مخلوقاته أن تكون اتكاليّة، فكما أنك لتأكل يجب عليك أن تبذل السبب لتنال به الطعام، وهو أن تعمل، فكذلك لتشفى من مرضك عليك أن تبذل السبب الذي يعينك على الشفاء من مرضك.
وفي جميع جوانب حياتك لتصل إلى مطلوبك، تبدأ بسؤال الله تعالى، وتبذل الأسباب التي توصلك إلى هذا المطلوب.
والله يستجيب لك إن شاء، ويعينك إلى الوصول إلى مطلوبك.
ولذلك تجد أئمة الإسلام حقاً وصدقاً وضعوا شروطاً لهذا الدعاء المباح، ليتميّز عن الدعاء الشركي، وهي:
1- أن يكون المدعو حياً لا ميتاً.
2- أن يكون حاضراً لا غائباً، أو ما يقوم مقام ذلك، كالرسائل.
3- أن يكون في أمر من أمور الدنيا التي يستطيعها البشر عادة.
فالميّت والغائب، لا يمكن أن يسمعك إذا ناديته، ولا أن يراك، ولن يعلم عن حالك شيئاً، ففي جميع الأحوال لا يجوز دعاء الميّت والغائب، سواء فيما يستطيعه المخلوق، أو فيما لا يستطيعه إلا الله تعالى، لأنك بذلك جعلت المخلوق ندّاً لله تعالى في كمال سمعه وبصره وعلمه وقوّته وقدرته على غوثك أو اعانتك أو اعاذتك.
كما أن المخلوق لن يستطيع أن يغيثك أو يعينك أو يعيذك إلا فيما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، لذلك لا يجوز دعاء المخلوقين في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، حتى لو كان حيّاً وحاضراً، لأنك لو فعلت ذلك، فقد جعلته ندّاً لله تعالى في قوّته وقدرته على غوثك أو اعانتك أو اعاذتك.
وكل هذه المسائل مدركة بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، وهو أن العبد، قادر على التمييز بين ما يستطيعه عامة الناس وما لا يستطيعونه، وأن الميّت والغائب لا يمكنهما أن يسمعاك أو يبصراك أو يعلمان عن حالك شيئاً، كما يدرك بالعقل الصحيح والفطرة السليمة أن المخلوقين لا يمكن أن يغيثوك أو يعينوك أو يعيذوك إلا فيما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، فكيف تدعوهم في ذلك!
فإذا وجدت شخصاً يدعوا إنساناً فيما يستطيعه عامة الناس عادةً، وبالشروط التي ذكرناها أعلاه، فهذا من الدعاء المباح، وإن وجدت إنساناً يدعو إنساناً فيما لا يستطيعه عامة الناس عادةً، فاعلم أن هذا من الدعاء الشركي، الذي لا يغفره الله تعالى، لأنه جعل لله تعالى ندّاً في قوّته وقدرته.ِ