وهو أعظم أنواع الشرك.
عن النعمان بن بشر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة". ثم قرأ قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر].
رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
قلت: إذا كان الدعاء هو العبادة، فإن الشرك فيه، هو أعظم أنواع الشرك وأخطرها، وهو الشرك الذي وقع فيه مشركوا العرب قبل الإسلام، ووقع فيه كثير من المتكلمين والشيعة والصوفية، فاعلموا أن الأرزاق ملك الله، فلا تسألوها إلا من الله، والغنى والفقر، والنصر والهزيمة، والصحة والمرض، والعافية والبلوى، والسعادة والشقاوة، والهداية والضلالة، والجنّة والنّار، كلها ملك الله عز وجل، فلا يهب الغنى والنصر والصحة والعافية والسعادة والهداية والجنّة، سوى الله، فلا تسألوها إلّا من الله، ولا يدفع الفقر والهزيمة والمرض والبلوى والشقاوة والضلالة والنّار، سوى الله، فلا تسألوا دفعها إلّا من الله، فمن سأل شيئاً من ذلك، ملكاً مقرّبا، أو نبيّاً مرسلا، أو وليّاً صالحا، أو إنسياً، أو جنّيّاً، فضلاً عن الأحجار والأشجار، فقد وقع في الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله تعالى، إلا إذا شاء.
وليس كل دعاء شرك، فالعرب تسمّي النداء: دعاء. كقولنا: يا زيد أفعل، ويا زيد لا تفعل، ونحو ذلك.
وكذلك دعاء الناس بعضهم بعضاً، عندما يستغيث ويستعين ويستعيذ بعضهم ببعض، فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا، مثل أن يدعو رجُلاً ليعينه على حمل شيء ثقيل، أو يدعو الطبيب إلى منزله ليعالجه، أو يدعو رجلاً لينصره على عدوه، فيقاتل معه بنفسه أو برجاله، أو يدعو آدميّاً ليعينه بشيء من ماله.
هذا كله مباح، لأن المخلوق يقدر عليها.
وإنما يكون الدعاء شركاً، إذا صرف لغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. أو صرف لغير الله تعالى في حال يكون فيها هذا المدعو عاجزاً عن سماعك أو رؤيتك أو العِلم بحالك. كأن يكون في مكان بعيد، أو يكون ميتاً، ويعيش في عالم أخر، حتى لو كان ما تدعوه إليه، مما يقدر عليه المخلوقون عادة، فإذا كان المدعو في مكان بعيد، أو ميِّت، فلا يجوز دعاءه بحال.
فهنا يكون الدعاء شركاً.
ويكون عملك عبادة شرعية، لا يجوز صرفها إلا لله تعالى.
فالعبادة في معناها اللغوي، تختلف عن العبادة في معناها الشرعي. فالعبادة لغة: هو كل عمل فيه خضوع وخنوع وذِلَّة.
والعبادة شرعاً: هي كل عمل فيه خضوع وخنوع وذِلَّة، ويجب أن لا يصرف لغير الله تعالى. وهذا هو ضابط العبادة الشرعيّة.
فالعبادة في معناها اللغوي، هي كعبودية الشعوب لملوكها، والرجل لوالديه، والعبيد لأسيادهم.
وأما العبادة الشرعيّة، فهي أن تتعبد لله تعالى وحده لا شريك له، بأعمال لا يجوز أن تصرفها لغيره. كأن تدعو الله تعالى في أمر لا يستطيعه إلا هو سبحانه، أو تذبح لله وتنذر له، لتتقرب له، لقضاء حاجة لا يستطيع قضاءها إلا هو سبحانه، أو تعبد الله تعالى بأعمال أمرك أن تعبده بها، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، ونحو ذلك، ويشمل ذلك الأعمال القلبية، فتجعل حبك لله أعظم الحب، وخوفك منه أعظم الخوف، ورهبتك منه أعظم الرهبة، وخشيتك منه أعظم الخشية، ورجاءك له أعظم الرجاء. فلا تجعل لله تعالى مثيلا ولا كفواً ولا نِدّاً في ذلك كله، فإن صرفت شيئاً من ذلك لغير الله تعالى، فقد وقعت في الشرك الأكبر.
فضابط العبادة له شرطان:
الأول: أن يكون العمل يراد به الخضوع والخنوع والذُلّ.
والثاني: أن لا يجوز صرفه لغير الله تعالى.
ولذلك، فإن العلماء الذين اشترطوا في دعاء المخلوق ليكون مباحاً، أن يكون المخلوق حيا لا ميتا، وحاضرا لا غائبا، وأن يكون دعاءه فيما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا، كانوا مصيبين في ذلك، وقد دلّ هذا على أن الله تعالى رزقهم الفهم العميق لهذه المسألة.